فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجِّه إلى الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع فيه، لتتخذ من هذا التوجيه نبراسًا نسير عليه؛ ليكون العمل صالحًا، وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول: الله، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى بقدرة الحق سبحانه على أن يَهَبَ الإنسانَ طاقة الإتقان والإبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضًا في تعليمه لداود عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [الأنبياء: 80].
وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن افعل كذا؛ فيفعل.
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كلَّ علومها وفنونها في التحنيط والألوان والنَّحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثِّلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها.
وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37].
ومعنى {بأعيننا} هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة {بأعيننا} تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية. ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصُّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟
{واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39]. وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل، وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39].
لأن موسى عليه السلام حين كان طفلًا رضيعًا قد ألقىَ في اليَمِّ، والتقطه رجال الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9].
ونحن نجد أن عَدُوَّ موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله سبحانه يقول لهم: سأجعلكم تُربُّون مَنْ يتولّى قهركم.
وقول الحق سبحانه: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].
أي: إنك إن توقَّفتَ لأية عقبة، فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلام الفُلْك احتاج لألواح خشبية، ولابد أن تتماسك تلك الألواح، ولم تكن مسامير قد اختُرعتْ بَعْدُ، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13].
أي: أن نوحًا عليه السلام قد أحضر من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحْكَمَ الرَّبط بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة، ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويٍّ، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرَّب من هذا السائل ويتمدَّد ليسدَّ المسَام، فلا ينضح السائل من البرميل؛ لأن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدّد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد بالحرارة.
ولذلك نجد النَّجَّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك في الفصول الرتيبة؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء الشتاء تمدَّد ذلك الخشب وسبَّب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدِّد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شبَّاك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37].
أي: لا تحدِّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم مَن ارتكبوا الظلم العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحدًا أحدًا لا شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق.
وهكذا عَلِمَ نوح عليه السلام أنَّ صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على مَنْ كفروا برسالته، فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون، أما مَنْ كفر فلسوف يغرق. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وذلك حين دعا عليهم نوح عليه السلام: {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26].
وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه قال: إن نوحًا لم يدع على قومه حتى نزلت عليه الآية: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم فدعا عليهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب رضي الله عنه قال: لما استنقذ الله من أصلاب الرجال وأرحام النساء كل مؤمن ومؤمنة قال: يا نوح: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}.
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن نوحًا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته، يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك. قال: يا أبت أمكني من العصا، ثم أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض. فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء، قال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين. فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} يعني لا تحزن عليهم: {واصنع الفلك} [هود: 37] قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء، فأغرق أهل معصيتي وأطهر أرضي منهم. قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فلا تبتئس} قال: فلا تحزن.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {أن اصنع الفلك} قال: السفينة: {بأعيننا ووحينا} قال: كما نأمرك.
وأخرج ابن أبو حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {واصنع الفلك بأعيننا} قال: بعين الله ووحيه.
وأخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه قال: ما وصف الله تبارك به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يعلم نوح عليه السلام كيف يصنع الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} يقول: لا تراجعني، تقدم إليه لا يشفع لهم عنده.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: نهى الله نوحًا عليه السلام أن يراجعه بعد ذلك في أحد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
قوله تعالى: {وَأُوحِيَ}: الجمهور على {أُوحي} مبنيًا للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل {أنه لن يؤمن} أي: أُوحي إليه عدمُ إيمان بعض. وقرأ أبو البرهسم {أوحى} مبنيًا للفاعل وهو اللَّه تعالى، {إنه} بكسر الهمزة. وفيها وجهان أحدهما: وهو أصلٌ للبصريين- أنه على إجراء الإِيحاء مُجْرى القول.
وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} هو تَفْتَعِل من البُؤْس ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال: ابتأسَ فلانٌ أي: بلغه ما يَكْرهه قال:
ما يَقْسِمِ اللَّهُ أَقْبَلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ ** منه وأقْعُدْ كريمًا ناعمَ البالِ

وقال آخر:
وكم مِنْ خليلٍ أو حَميمٍ رُزِئْتُه ** فلم نَبْتَئِس والرُّزْء فيه جَليل

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا}: حالٌ من فاعل {اصنع} أي: محفوظًا بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلام اللَّه له بالحفظ. وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهًا لهم بعيونِ الناس أي: الذين يتفقَّدون الأخبار، والجمع حينئذ حقيقةٌ. وقرأ طلحة بن مصرف {بأعيُنَّا} مدغمة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف الإمام القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
عرَّفه الحقُّ أنَّه غنيٌّ عن إيمانهم، فكَشَفَ له أحكامَهم، وأَنَّ مَنْ لم يؤمن منهم قد سبق الحكمُ بشقائهم، فعند ذلك دعا لعيهم نوحٌ عليه السلام بالإهلاك.
ويقال لم يدعُ عليهم ما دام للمطمع في إيمانهم مساغٌ، فلما حَصَل العكسُ نطق بالتماس هلاكهم.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)} أي قُمْ- بشرط العبودية- بصنع السفينة بأمرنا، وتحقق بشهودنا، وأنَّك بمرأىً منا. ومَنْ عَلِمَ اطلاَعه عليه يلاحِظْ نَفْسَه ولا غيرَه، لاسيما وقد تحقق بأنَّ المُجْرِي هو سبحانه.
وقال له: راعِ حَدَّ الأدَبِ، فما لم يكن لك إذْنٌ منا في الشفاعة لأحدٍ فلا تُخاطِبْنا فيهم.
ويقال سبق لهم الحكمُ بالغَرَقِ- وأمواج بحر التقدير تتلاطم- فكلُّ في بحار القدرة مُغْرَقُون إلا من أهَّلَه الحقُّ بِحُكْمِه فَحَمَلَه في سفينة العناية.
ويقال كان قومُ نوحٍ من الغَرْقَى في بحار القَطْرِة، ومِنْ قبلُ كانوا غرقى في بحار القدرة. اهـ.

.تفسير الآيات (38- 40):

قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمره تعالى ونهاه، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفًا على ما تقديره: فأيس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه: {ويصنع} أي صنعة ماهر جدًا، له ملكة عظيمة بذلك الصنع: {الفلك} فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم، وأشار إلى أنهم ازدادوا بغيًا بقوله: {وكلما} أي والحال أنه كلما: {مرَّ عليه ملأ} أي أشراف: {من قومه} وأجاب {كلما} بقوله: {سخروا منه} أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك، وذلك أنهم رأوه يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة فعن الحسن أن طوالها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة، فقالوا: يا نوح! ما تصنع؟ قال: أبني بيتًا على الماء، ويجوز أن يكون: {سخروا}: صفة لملإ، وجواب: {كلما}: {قال}، ولما أيأسه الله من خيرهم، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه، فقال حاكيًا عنه استئنافًا: {قال إن تسخروا منا} ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعًا لخزي والسخرية، وكان هو صلى الله عليه وسلم عالمًا بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل، فكان المعنى: إن تسخروا منا- أي مني وممن يساعدني- لظن أن عملنا غير مثمر: {فإنا نسخر} أي نوجد السخرية: {منكم} جزاء لكم: {كما تسخرون} منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصرًا على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني.
ولما كان قوله: {نسخر منكم} واقعًا موقع هذا الإخبار، حسن الإتيان بالفاء المؤذنة بتسبب العلم المذكور عنه في قوله: {فسوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه: {من يأتيه عذاب يخزيه} أي يفضحه فيذله، وكأن المراد به عذاب الدنيا: {ويحل عليه} أي حلول الدين الذي لا محيد عنه: {عذاب مقيم} وهو عذاب الآخرة، وقد مضى نحوه في الأنعام عند قوله: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار}؛ والسخرية: إظهار ما يخالف الإبطان على جهة تفهم استضعاف العقل، من التسخير وهو التذليل استضعافًا بالقهر، وهي تفارق اللعب بأن فيها خدعة استنفاض، فلا تكون إلا بحيوان، واللعب قد يكون بجماد لأنه مطلق طلب الفرح؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته والعار به، ونظيره الذل والهوان؛ واستمر ذلك دأبه ودأبهم: {حتى إذا جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاكم: {وفار} أي غلا وطفح: {التنور} وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه، وهذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول: {قلنا} بعظمتنا: {احمل} ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء- كما قاله أهل التفسير- لئلا تمتلئ من شدة الأمطار، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال: {فيها} أي السفينة: {من كل زوجين} من الحيوانات، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به: {اثنين} ذكرًا وأنثى: {وأهلك} أي احملهم، والأهل: العيال: {إلا من سبق} غالبًا: {عليه القول} بأني أغرقه وهو امرأته وابنه كنعان: {ومن} أي واحمل فيها من: {آمن} قال أبو حيان: وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه؛ ثم سلى المخاطب بهذه القصص صلى الله عليه وسلم وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال: {وما} أي والحال أنه ما: {آمن} كائنًا: {معه} أي بإنذاره: {إلا قليل} بسبب تقديرنا لا باغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار؛ والتنور- قال أبو حيان: وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي، وقال ثعلب: وزنه تفعول من النور، وأصله تنوور، همزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبلها، والزوج قد كثر على الرجل الذي له امرأة؛ قال الرماني: وقال الحسن في {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]: السماء زوج والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء، ومعنى ذلك في صحيح البخاري وأقل ما قيل فيمن كان في السفينة ثمانية: نوح وامرأة له، وثلالة بنين: سام وحام ويافث، ونساؤهم؛ وأكثر ما قيل أنهم ثمانون- روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما. اهـ.